بداية يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: قد درسنا في مراحل ثقافتنا فلسفة الأخلاق ومناهج الفلاسفة ومقاييسهم لضبط سلوك البشر، وأعجبنا بما فيها من فكر عميق وتلمس للحقيقة واستشراف للمثل العليا، ولسنا نغمط فضل أحد نشد الخير للناس واجتهد في إنارة السبل أمامهم، بيد أننا نلفت أنظار المنصفين إلى أساليب التربية الناجحة والأخلاق الرائعة التي جاء بها صاحب الرسالة الخاتمة ونقل بها العالم من الغي إلى الرشاد، وسوف يرون أن في الإسلام كنوزاً حافلة بالنفائس دونها ما ورث الناس من فلسفة اليونان والرومان.
وقيل لعالم مسلم: هل قرأت أدب النفس لأرسطو؟ فقال: بل قرأت أدب النفس لمحمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام
وللذين تخلوا عن مبادئهم وقيمهم وأخلاقهم التي هي من صحيح عقيدتهم ودينهم وتاهوا باحثين عن مبادئ وقيم أخرى، نقول لهم ما قاله المبرّد:
يا مَنْ تلبس أثواباً يتيه بها
تيه الملوك على بعض المساكين
ما غير الجل أخلاق الحمير ولا
نقشُ البراذع أخلاق البراذين ضعف الخلق دليل على ضعف الايمان
ان الايمان القوي يلد الخلق القوي حتما وان انهيار الاخلاق مرده الى ضعف الايمان او فقدانه
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الحياء والايمان قرناء جميعا فإذا رفع احدهما رفع الأخر ))فإذا نمت الرذائل في النفس وفشا ضررها وتفاقم خطرها انسلخ المرء من دينه كما ينسلخ العريان من ثيابه واصبح ادعاؤه للايمان زورا
فما قيمة دين بلا اخلاق ؟ وما معنى الافساد مع الانتساب لله ؟
فضل حسن الخلق عن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((الا اخبركم بأحبكم إلي واقربكم مني مجلسا يوم القيامة ؟ قالو نعم يارسول الله قال احسنكم خلقا ))
وقال ((مامن شئ اثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ان الله يكره الفاحش البذئ وان صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة ))
الأمــــــــــانــــــــة الامانة في نظر الشارع واسعة الدلالة وهي ترمز الى معان شتى مناطها جميعا شعور المرء بتبعته في كل امر يوكل اليه وادراكه الجازم بأنه مسئول عنه امام ربه علة نحو الحديث الكريم:
((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته ))والعوام يقصرون الامانة في اضيق معانيها واخرها ترتيبا وهو حفظ الودائع مع ان حقيقتها في دين الله اضخم واثقل
وكان رسول الله في حياته الاولى قبل البعثة يلقب بين قومه بالامين
وكذلك شوهدت مخايل الامانة على موسى حين سقى لابنتي الرجل الصالح ورفق بهما واحترم انوثتهما وكان معهما عفيفا شريفا
( فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ( 24 ) فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ( 25 قالت احداهما يأبت استئجره ان خير من ااستئجرت القوي الامين ))) من معاني الامانة وضع كل شئ في المكان الجدير به والائق له فلا يسند منصب الا لصاحبه الحقيق به ولا تملأ وظيفة الا بالرجل الذي ترفعه كفايته اليها
واعتبار الولايات والاعمال العامة امانات مسئولة ثابت من وجوه كثيرة
فعن ابي ذر قال :قلت يا رسول الله الا تستعملني ؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال : يا ابا ذر انك ضعيف وانها امانه وانها يوم القيامة خزي وندامة إلا من اخذها بحقها وادى الذي عليه فيها ان الكفاية العلمية والعملية ليست لازمة لصلاح النفس قد يكون الرجل رضي السيرة حسن الايمان ولكنه لا يحمل من المؤهلات المنشودة ما يجعله منتجا في وظيفة معينة
الا ترى الى يوسف الصديق ؟ انه لم يرش نفسه لادارة شئون المال بنبوته وتقواه فحسب بل بحفظه وعلمه ايضا
((اجعلني على خزائن الارض اني حفيظ اعليم ))والامة التي لا امانة فيها هي الامة التي تعبث فيها الشفاعات بالمصالح المقررة وتطيش بأقدار الرجال الاكفاء لتهملهم وتقدم من دونهم وقد ارشدت السنة الى ان هذا من مظاهر الفساد الذي سوف يقع اخر الزمان
جاء رجل يسال رسول الله متى تقوم الساعة ؟ فقال له : اذا ضيعت الامانة فانتظر الساعة فقال وكيف اضاعتها قال : اذا وسد الامر لغير اهله فانتظر الساعة ومن معاني الامانة ان يحرص المرء على اداء واجبه كاملا في العمل الذي يناط به وان يستفيد جهده في ابلاغه تمام الاحسان وان يسهر على حقوق الناس التي وضعت بين يديه فان استهانة الفرد بما كلف به وان كان تافها ستتبع شيوع التفريط في حياة الجماعة كلها ثم ااستشراء الفساد في كيان الامة وتداعيه برمته
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((العامل اذا استعمل فأخذ الحق واعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع الى بيته ))ومن معاني الامانة ايضا ان تحفظ حقوق المجالس التي تشارك فيها فلا تدع لسانك يفشي اسرارها ويسرد اخبارها
قال رسول الله ((اذا حدث رجل رجلا ثم التفت فهو امانة ))
وايضا مايضمه البيت من شئون العشرة بين الرجل وامراته يجب ان يطوى في استار مسبلة فلا يطلع عليها احد مهما قرب
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ان من اعظم الامانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي الى امراته وتفضي اليه ثم يسر سرها ))الامانة ضمير حي الى جانب الفهم الصحيح للقران والسنة
فإذا مات الضمير انتزعت الامانة فما يغني عن المرء ترديد لايات ولا دراسة لسنن وهيهات ان تستقر الامانة في قلب تنكر للحق
فعن حُذَيْفَة قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ‘ حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ ،حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ [ أي في أصلها ] ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا ؛ قَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ ،فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ [ أي مثل النقطة ] ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ [ أي كمثل أثر العمل في اليد ] كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا [ أي مرتفعًا ] وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ ،فَيُقَالُ إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا ) رواه البخاري .